الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ويقولون كلامًا، معناه: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خص كل قوم بما يصلح لهم، فإنه أمر قومًا بالإمساك، وقومًا بالإنفاق، وقومًا بالكسب، وقومًا بترك الكسب. ويقولون: إن هذا ذكرته أشياخنا في [العوارف] وغيره من كتب المحققين، وربما ذكروا أن حذيفة كان يعلم أسماء المنافقين، خصه بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وبحديث أبي هريرة:(حفظت جِرَابين). ويروون كلامًا عن أبي سعيد الخراز أنه قال: للعارفين خزائن أودعوها علومًا غريبة يتكلمون فيها بلسان الأبدية، يخبرون عنها بلسان الأزلية، ويقولون: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (إن من العلم كهيئة المخزون لا يعلمه إلا العلماء باللّه، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغِرَّة باللّه) [وقوله: أهل الغِرَّة ـ أى أهل الغفلة] . فهل ما ادعوه صحيحًا أم لا؟ فسيدي يبين لنا مقالاتهم؛ فإن المملوك وقف على كلام لبعض العلماء ذكر فيه أن الواحدي قال: ألف أبو عبد الرحمن السلمي كتابًا سماه [حقائق التفسير] إن صح عنه فقد كفر، ووقفت على هذا الكتاب فوجدت كلام هذه الطائفة منه أو ما شابهه، فما رأى سيدي في ذلك؟ وهل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [للقرآن باطن] الحديث يفسرونه على ما يرونه من أذواقهم ومواجيدهم المردودة شرعًا ؟ أفتونا مأجورين. فأجابَ الشيخ ـ رضي اللّه عنه: الحمد للّه رب العالمين. أما الحديث المذكور، فمن الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد من أهل العلم، ولا يوجد في شىء من كتب الحديث؛ ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفًا أو مرسلاً: (أن لكل آية ظهرًا وبطنًا وحدّا ومَطْلَعًا) وقد شاع في كلام كثير من الناس: [علم الظاهر،وعلم الباطن]، و[أهل الظاهر،وأهل الباطن]. ودخل في هذه العبارات حق وباطل. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع؛ لكن نذكر هنا جملا من ذلك فنقول: قول الرجل: [الباطن]، إما أن يريد علم الأمور الباطنة،مثل: العلم بما في القلوب من المعارف والأحوال، والعلم بالغيوب التي أخبرت بها الرسل، وإما أن يريد به العلم الباطن، أي الذي يبطن عن فهم أكثر الناس، أو عن فهم من وقف مع الظاهر ونحو ذلك. فأما الأول، فلا ريب أن العلم منه ما يتعلق بالظاهر، كأعمال الجوارح. ومنه ما يتعلق بالباطن، كأعمال القلوب. ومنه ما هو علم بالشهادة، وهو ما يشهده الناس بحواسهم. ومنه ما يتعلق بالغيب، وهو ما غاب عن إحساسهم. وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: والعلم بأحوال القلوب ـ كالعلم بالاعتقادات الصحيحة والفاسدة، والإرادات الصحيحة والفاسدة، والعلم بمعرفة اللّه ومحبته، والإخلاص له وخشيته، والتوكل عليه، والرجاء له، والحب فيه، والبغض فيه، والرضا بحكمه، والإنابة إليه، والعلم بما يُحْمَد ويُذَم من أخلاق النفوس، كالسخاء والحياء، والتواضع والكبر، والعجب والفخر، والخيلاء، وأمثال ذلك من العلوم المتعلقة بأمور باطنة في القلوب ونحوه ـ قد يقال له: [علم الباطن] أي علم بالأمر الباطن، فالمعلوم هو الباطن. وأما العلم الظاهر فهو ظاهر يتكلم به ويكتب، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وكلام السلف وأتباعهم، بل غالب آي القرآن هو من هذا العلم؛ فإن اللّه أنزل القرآن ومن لم يكن له علم بما يصلح باطنه ويفسده، ولم يقصد صلاح قلبه بالإيمان ودفع النفاق- كان منافقًا إن أظهر الإسلام؛ فإن الإسلام يظهره المؤمن والمنافق وهو علانية، والإيمان في القلب، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الإسلام عَلانِية والإيمان في القلب)، وكلام الصحابة والتابعين والأحاديث والآثار في هذا أكثر منها في الإجارة والشفعة والحيض والطهارة بكثير كثير؛ ولكن هذا العلم ظاهر موجود مقول باللسان، مكتوب في الكتب؛ ولكن من كان بأمور القلب أعلم، كان أعلم به، وأعلم بمعاني القرآن والحديث. وعامة الناس يجدون هذه الأمور في أنفسهم ذوقًا ووجْدًا، فتكون محسوسة لهم بالحس الباطن؛ لكن الناس في حقائق الإيمان متفاضلون تفاضلا عظيمًا، فأهل الطبقة العليا يعلمون حال أهل السفلى من غير عكس، كما أن أهل الجنة في الجنة ينزل الأعلى إلى الأسفل، ولا يصعد الأسفل إلى الأعلى، والعالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما؛ فلهذا كان في حقائق الإيمان الباطنة وحقائق أنباء الغيب التي أخبرت بها الرسل ـ ما لا يعرفه إلا خواص الناس، فيكون هذا العلم باطنًا من جهتين: من جهة كون المعلوم باطنًا، ومن جهة كون العلم باطنًا لا يعرفه أكثر الناس. ثم إن هذا الكلام في هذا العلم يدخل فيه من الحق والباطل ما لا يدخل في غيره، فما وافق الكتاب والسنة فهو حق، وما خالف ذلك فهو باطل كالكلام في الأمور الظاهرة.
وأما إذا أريد بالعلم الباطن العلم الذي يبطن عن أكثر الناس، أو عن بعضهم، فهذا على نوعين: أحدهما: باطن يخالف العلم الظاهر. والثاني: لا يخالفه. فأما الأول فباطل؛ فمن ادعى علمًا باطنًا أو علمًا بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئًا؛ إما ملحدًا زنديقًا، وإما جاهلاً ضالاً. وأما الثاني فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر، قد يكون حقًا، وقد يكون باطلا، فإن الباطن إذا لم يخالف الظاهر لم يعلم بطلانه من جهة مخالفته للظاهر المعلوم، فإن علم أنه حق قبل، وإن علم أنه باطل رد وإلا أمسك عنه. وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم، ممن وافقهم من الفلاسفة وغلاة المتصوفة والمتكلمين. وشَرُّ هؤلاء القرامطةُ؛ فإنهم يدعون أن للقرآن والإسلام باطنًا يخالف الظاهر؛ فيقولون: الصلاة المأمور بها ليست هذه الصلاة، أو هذه الصلاة إنما يؤمر بها العامة، وأما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا. والصيام: كتمان أسرارنا. والحج: السفر إلى زيارة شيوخنا المقدسين. ويقولون: إن [الجنة] للخاصة: هي التمتع في الدنيا باللذات، و[النار] هي التزام الشرائع والدخول تحت أثقالها. ويقولون: إن [الدابة] التي يخرجها اللّه للناس هي العالم الناطق بالعلم في كل وقت، وإن [إسرافيل] الذي ينفخ في الصور هو العالم الذي ينفخ بعلمه في القلوب حتى تحيا، و [جبريل] هو العقل الفعال الذي تفيض عنه الموجودات، و[القلم] هو العقل الأول الذي تزعم الفلاسفة أنه المبدع الأول، وأن الكواكب والقمر والشمس التي رآها إبراهيم هي النفس والعقل وواجب الوجود، وأن الأنهار الأربعة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هي العناصر الأربعة، وأن الأنبياء التي رآها في السماء هي الكواكب. فآدم هو القمر، ويوسف هو الزهرة، وإدريس هو الشمس، وأمثال هذه الأمور. وقد دخل في كثير من أقوال هؤلاء كثير من المتكلمين والمتصوفين، لكن أولئك القرامطة ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، وعامة الصوفية والمتكلمين ليسوا رافضة يفسقون الصحابة ولا يكفرونهم، لكن فيهم من هو كالزيدية الذين يفضلون عليًا على أبي بكر، وفيهم من يفضل عليًا في العلم الباطن كطريقة الحربي وأمثاله، ويدعون أن عليًا كان أعلم بالباطن، وأن هذا العلم أفضل من جهته، وأبو بكر كان أعلم بالظاهر. وهؤلاء عكس محققي الصوفية وأئمتهم، فإنهم متفقون على أن أعلم الخلق بالعلم الباطن هو أبو بكر الصديق. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أعلم الأمة بالباطن والظاهر، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد. وهؤلاء الباطنية قد يفسرون: وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله تعالى: وباطنية الفلاسفة يفسرون الملائكة والشياطين بقوى النفس، وما وعد الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها ويتألم بها. وقد وقع في هذا الباب في كلام كثير من متأخري الصوفية، ما لم يوجد مثله عن أئمتهم ومتقدميهم، كما وقع في كلام كثير من متأخري أهل الكلام والنظر من ذلك ما لا يوجد عن أئمتهم ومتقدميهم. وهؤلاء المتأخرون ـ مع ضلالهم وجهلهم ـ يدعون أنهم أعلم وأعرف من سلف الأمة ومتقدميها، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا الوجود واحدًا، كما فعل ابن عربي صاحب [الفصوص] وأمثاله؛ فإنهم دخلوا من هذا الباب حتى خرجوا من كل عقل ودين، وهم يدعون مع ذلك أن الشيوخ المتقدمين - كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد اللّه التستري، وإبراهيم الخواص، وغيرهم - ماتوا وما عرفوا التوحيد، وينكرون على الجنيد وأمثاله إذا ميزوا بين الرب والعبد كقوله: [التوحيد] إفراد الحدوث عن القدم. ولعمري إن توحيدهم الذي جعلوا فيه وجود المخلوق وجود الخالق هو من أعظم الإلحاد الذي أنكره المشايخ المهتدون، وهم عرفوا أنه باطل، فأنكروه وحذروا الناس منه، وأمروهم بالتمييز بين الرب والعبد، والخالق والمخلوق، والقديم والمحدث، وأن التوحيد أن يعلم مباينة الرب لمخلوقاته وامتيازه عنها، وأنه ليس في مخلوقاته شىء من ذاته ولا في ذاته شىء من مخلوقاته. ثم إنهم يدعون أنهم أعلم باللّه من المرسلين، وأن الرسل إنما تستفيد معرفة اللّه من مشكاتهم، ويفسرون القرآن بما يوافق باطنهم الباطل،كقوله: وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان: أحدهما: أن يكون المعنى المذكور باطلاً؛ لكونه مخالفًا لما علم، فهذا هو في نفسه باطل، فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضى أنه حق. والثاني: ما كان في نفسه حقًا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الذي يسمونه [إشارات]، و[حقائق التفسير] لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شىء كثير. وأما النوع الأول، فيوجد كثيرًا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم؛ فإن من علم أن السابقين الأولين قد رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، علم أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك فهو باطل، ومن أقر بوجوب الصلوات الخمس على كل أحد ـ مادام عقله حاضرًا ـ علم أن من تأول نصًا على سقوط ذلك عن بعضهم فقد افترى، ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد- ما دام عقله حاضرًا- علم أن من تأول نصًا يقتضى تحليل ذلك لبعض الناس أنه مُفْتَرٍ. وأما النوع الثاني، فهو الذي يشتبه كثيرًا على بعض الناس؛ فإن المعنى يكون صحيحًا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه، و هذان قسمان: أحدهما: أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ، فهذا افتراء على اللّه، فمن قال: المراد بقوله: والقسم الثاني: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب دلالة اللفظ، فهذا من نوع القياس؛ فالذي تسميه الفقهاء قياسًا هو الذى تسميه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك، فمن سمع قول اللّه تعالى: وكذلك من قال: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كَلْبٌ ولا جُنُب)، فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان، إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد فقد أصاب، قال تعالى: وكتاب [حقائق التفسير] لأبي عبد الرحمن السلمي يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: نقول ضعيفة عمن نقلت عنه، مثل أكثر ما نقله عن جعفر الصادق، فإن أكثره باطل عنه، وعامتها فيه من موقوف أبي عبد الرحمن، وقد تكلم أهل المعرفة في نفس رواية أبي عبد الرحمن، حتى كان البيهقي إذا حدث عنه يقول: حدثنا من أصل سماعه. والثاني: أن يكون المنقول صحيحًا، لكن الناقل أخطأ فيما قال. والثالث: نقول: صحيحة عن قائل مصيب، فكل معنى يخالف الكتاب والسنة فهو باطل، وحجته داحضة، وكل ما وافق الكتاب والسنة والمراد بالخطاب غيره إذا فسر به الخطاب فهو خطأ، وإن ذكر على سبيل الإشارة والاعتبار والقياس فقد يكون حقًا وقد يكون باطلاً. وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على اللّه، ملحد في آيات اللّه، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام. وأما ما يروي عن بعضهم من الكلام المجمل مثل قول بعضهم:لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب... إلخ، فهذا إذا صح عمن نقل عنه كعلي وغيره،لم يكن فيه دلالة على الباطن المخالف للظاهر،بل يكون هذا من الباطن الصحيح الموافق للظاهر الصحيح. وقد تقدم أن الباطن إذا أريد به ما لا يخالف الظاهر المعلوم فقد يكون حقًا، وقد يكون باطلاً، ولكن ينبغي أن يعرف أنه قد كذب على عليّ وأهل بيته، لا سيما على جعفر الصادق ما لم يكذب على غيره من الصحابة، حتى إن الإسماعيلية والنصيرية يضيفون مذهبهم إليه وكذلك المعتزلة. وكذلك فرقة التصوف يقولون: إن الحسن البصري صحبه، وأنه دخل المسجد فرأي الحسن يقص مع القصاص، فقال: ما صلاح الدِّين؟ قال:الوَرَع. قال: فما فساده؟ قال: الطمع، فأقره وأخرج غيره. وقد اتفق أهل المعرفة بالمنقولات أن الحسن لم يصحب عليًا، ولم يأخذ عنه شيئًا، و إنما أخذ عن أصحابه كالأحنف بن قيس، وقيس بن سعد بن عباد وأمثالهما، ولم يقص الحسن في زمن علي، بل ولا في زمن معاوية، وإنما قص بعد ذلك. وقد كانوا في زمن علي يكذبون عليه حتى كان الناس يسألونه، كما ثبت في الصحيحين: أنه قيل له: هل عندكم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاب تقرؤونه؟ فقال: لا والذي فَلَق الحَبَّةَ، وبَرَأ النَّسَمَة، إلا هذه الصحيفة. وفيها أسنان الإبل، وفكاك الأسير، وألا يُقْتَل مُسِلمٌ بكافر. وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئًا لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا. وفي لفظ: إلا فَهْمًا يؤتيه اللّه عبدًا في كتابه. وأما العلم اللدني،فلا ريب أن اللّه يفتح على قلوب أوليائه المتقين،وعباده الصالحين ـ بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه، واتباعهم ما يحبه- ما لا يفتح به على غيرهم. وهذا كما قال عليّ: إلا فهما يؤتيه اللّه عبدًا في كتابه، وفي الأثر: (من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم)، وقد دل القرآن على ذلك في غير موضع، كقوله: وأخبر أن اتباع ما يكرهه يصرف عن العلم والهدى، كقوله: ومن فهم معنى الآية عرف خطأ من قال: [أن] بمعنى لعل، واستشكل قراءة الفتح، بل يعلم حينئذ أنها أحسن من قراءة الكسر، وهذا باب واسع. والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام، طرفان ووسط. فقوم يزعمون: أن مجرد الزهد وتصفية القلب ورياضة النفس، توجب حصول العلم بلا سبب آخر. وقوم يقولون: لا أثر لذلك، بل الموجب للعلم العلم بالأدلة الشرعية أو العقلية. وأما الوسط: فهو أن ذلك من أعظم الأسباب معاونة على نيل العلم، بل هو شرط في حصول كثير من العلم، وليس هو وحده كافيًا، بل لابد من أمر آخر إما العلم بالدليل فيما لا يعلم إلا به، وإما التصور الصحيح لطرفي القضية في العلوم الضرورية. وأما العلم النافع الذي تحصل به النجاة من النار، ويسعد به العباد، فلا يحصل إلا باتباع الكتب التي جاءت بها الرسل، قال تعالى: وأضل منهما من سلك في العلم والمعرفة طريق أهل الفلسفة والكلام، بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة، ولا العمل بموجب العلم، أو سلك في العمل والزهد طريق أهل الفلسفة والتصوف، بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة، ولا اعتبار العمل بالعلم، فأعرض هؤلاء عن العلم والشرع، وأعرض أولئك عن العمل والشرع، فَضَلَّ كل منهما من هذين الوجهين، وتباينوا تباينًا عظيمًا، حتى أشبه هؤلاء اليهود المغضوب عليهم، وأشبه هؤلاء النصارى الضالين، بل صار منهما من هو شر من اليهود والنصارى، كالقرامطة والاتحادية وأمثالهم من الملاحدة الفلاسفة.
|